|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولَكِن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيبًا فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا وخاف من الله تعالى خوفًا كبيرًا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيمًا وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا فلم يدخل أحد منهم إلاّ بجوار أو مستخفيًّا.فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شرًّا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول} الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانًا {ولا نبي} النبي هو الذي تكون نبوته إلهامًا، أو منامًا فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا إلا إذا تمنى يعني أحب شيئًا واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به {ألقى الشيطان في أمنيته} يعني في مراده وقال ابن عباس: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلًا.والمعنى ما من نبي {إلا إذا تمنى} أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقى الشيطان.وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل:
فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصدًا ولا عمدًا ولا سهوًا ولا غلطًا قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} وقال تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التلاوة وهو معصوم منه؟.قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وأخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخًا من قريش أخذ كفًا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافرًا».أخرجه البخاري ومسلم وصح في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة.وفقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جدًّا فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني: وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إليه غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القران حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقعطنا من الوتين} الآية الجواب الثالث: في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القران ترتيلًا ويفصل الآي تفصيلًا كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكيًّا لصوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذم الأوثان وإنهم كانوا يحفظون السورة كما أولها الله عز وجل الجواب الرابع: في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول: يكون معنى قوله: {إلا إذا تمنى} أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني: وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله: {إلا إذا تمنى} أي تلا وهو ما يقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولَكِنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها في سورة كذا» وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم.قوله عز وجل: {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} أي يبطله ويذهبه {ثم يحكم الله آياته} أي يثبتها {والله عليم حكيم} قوله عز وجل: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء {للذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق {والقاسية قلوبهم} أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} أي في خلاف شديد.{وليعلم الذي أوتوا العلم} أي التوحيد والقران والتصديق بنسخ الله ما يشاء {أنه الحق من ربك} أي الذي أحكم الله من آيات القران هو الحق من ربك {فيؤمنوا به} أي يعتقدوا أنه من الله عز وجل {فتخبت له قلوبهم} أي تسكن إليه {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} أي إلى طريق قويم وهو الإسلام.قوله عز وجل: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم {حتى تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت {أو يأتيهم عذاب عقيم} أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيمًا لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه {الملك يومئذٍ} يعني يوم القيامة {لله} وحده من غير منازع ولا مشارك فيه {يحكم} اي يفصل {بينهم} ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى: {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين}.قوله تعالى: {والذين هاجروا في سبيل الله} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه {ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقًا حسنًا} أي لا ينقطع أبدًا وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {وإن الله لهو خير الرازقين} فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عز وجل لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين.قلت قد يسمى غير الله رازقًا على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.{ليدخلنهم مدخلًا يرضونه} يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه {وإن الله لعليم} بنياتهم {حليم} بالعفو عنهم. اهـ.
|